تركيا والأمن الأوروبي- شراكة استراتيجية في مواجهة التحديات الجديدة

يشهد حلف شمال الأطلسي (الناتو) فترة حرجة لم يشهدها منذ تأسيسه في أبريل/نيسان 1949. تتصاعد الشكوك بشأن التزام الولايات المتحدة بالحلف، الذي أنشئ في الأساس لمواجهة التهديد السوفياتي. الأمر المثير للسخرية هو أن أوروبا تواجه اليوم مخاطر أمنية جسيمة من روسيا، الوريثة للإمبراطورية الشيوعية السابقة.
تفاقمت هذه الشكوك بسبب التصريحات المتقطعة الصادرة عن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ومساعديه، مما دفع الدول الأوروبية إلى التفكير في إنشاء نظام أمني ودفاعي بديل، مستقل عن الدعم الأمريكي الذي تمتعت به أوروبا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.
لكن هذا التحول نحو الاعتماد على الذات يمثل تحديًا كبيرًا للأوروبيين. فهو يتطلب زيادة الإنفاق العسكري، وتعزيز الصناعات الدفاعية، وتطوير رؤية استراتيجية متكاملة للمستقبل العسكري للقارة، وهو ما تم التأكيد عليه في السياسة الدفاعية الجديدة التي اعتمدها المجلس الأوروبي في قمته الأخيرة في بروكسل.
وفي هذا السياق، قرر الاتحاد الأوروبي التعاون مع دول من خارج الاتحاد لتعزيز هذا المشروع الأمني الجديد، فوقع الاختيار على كل من بريطانيا وتركيا للاضطلاع بهذا الدور.
تحركات أوروبية حثيثة
منذ بداية مارس/آذار الجاري، بدت الجهود الأوروبية الرامية إلى دعم أوكرانيا وتعزيز القدرات الدفاعية للقارة واضحة. وقد حرصت هذه الجهود على إشراك تركيا في المناقشات الدائرة.
استضافت بريطانيا قمة أوروبية استثنائية حضرها عشرة قادة أوروبيين، بالإضافة إلى ممثلين عن كندا وتركيا، حيث مثل أنقرة وزير الخارجية هاكان فيدان، وممثلون عن الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي.
وبعدها بأيام قليلة، شاركت تركيا في اجتماع "الدول ذات التفكير المماثل" الذي نظمه الاتحاد الأوروبي، بحضور قادة أوروبيين ورئيس الوزراء الكندي والرئيس التركي.
أكد الرئيس أردوغان، في كلمته التي ألقاها عبر الإنترنت، على "الأهمية المتزايدة للعلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي في تعزيز الأمن الاقتصادي والدفاعي لأوروبا، خاصة في ظل التحديات الراهنة".
كما أشار إلى قدرة بلاده على لعب دور محوري في تسوية الصراع الروسي الأوكراني، بما في ذلك استضافة مفاوضات سلام بين الجانبين، بالنظر إلى الخبرة التركية في هذا المجال ونجاحها في التوسط بين الطرفين عام 2022 والتوصل إلى اتفاق، والذي تم إفشاله لاحقًا من قبل رئيس الوزراء البريطاني السابق، بوريس جونسون.
من الجدير بالذكر أن الرئيس التركي لم يقدم هذه الخدمات للأوروبيين بالمجان، بل أكد على تمسك بلاده بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وضرورة رفع القيود المفروضة على مشاركة تركيا في برامج الإمداد بالمنتجات الدفاعية للاتحاد الأوروبي وإعادة إعمار أوكرانيا.
وشدد أردوغان على أن "اعتماد منظور استراتيجي طويل الأمد في العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي يصب في مصلحة الطرفين".
وهكذا، تتبنى القيادة في أنقرة قناعة راسخة بأنه لا يمكن لأوروبا بناء نظام أمني جديد دون مشاركة تركيا الفاعلة. ووفقًا لتعبير الوزير هاكان فيدان، "لا يمكن بناء هيكل أمني مستدام ورادع للاتحاد الأوروبي إلا بمساهمة تركيا".
زيارة توسك إلى أنقرة
يقول مثل بولندي قديم: "إذا لم تشرب الخيول التركية من مياه نهر فيستولا، فلن يتم إنقاذ بولندا"، وهذا يعكس قوة العلاقات التاريخية التي تربط البلدين منذ زمن الإمبراطورية العثمانية.
في هذا السياق، قام رئيس الوزراء البولندي، دونالد توسك، بزيارة إلى أنقرة في 12 مارس/آذار الجاري، لمناقشة الترتيبات الأمنية الأوروبية مع الرئيس أردوغان، خاصة أن توسك كان رئيسًا للمجلس الأوروبي عندما تفاوض مع تركيا بشأن اتفاقية عام 2016 للحد من تدفق اللاجئين إلى أوروبا.
توسك كان صريحًا وواضحًا في مطالبته أردوغان "بتحمل أكبر قدر ممكن من المسؤولية عن استقرار المنطقة"، مؤكدًا أن "تخطيط أوروبا لجميع الخطوات المتعلقة بأمن القارة بالتعاون مع تركيا سيكون في صالح الطرفين".
وفي خطوة ذكية، لم يتجاهل توسك المطلب الرئيسي لتركيا، حيث صرح قائلًا: "نريد أن نرى تركيا عضوًا في الاتحاد الأوروبي".
يثير هذا الإصرار الأوروبي على إشراك تركيا في النظام الأمني المستقبلي تساؤلات حول الدور الذي يمكن أن تلعبه تركيا في تعزيز أمن القارة.
الدور التركي في الأمن الأوروبي
منذ قمة الاتحاد الأوروبي في هلسنكي في ديسمبر/كانون الأول 1999، تحمل تركيا صفة "دولة مرشحة" للانضمام إلى الاتحاد، لكن هذا الملف لم يشهد تقدمًا كبيرًا منذ ذلك الحين.
مع ذلك، من الخطأ اختزال علاقة تركيا بأوروبا في مجرد ملف الانضمام إلى الاتحاد، فالبلدان تربطهما علاقات جغرافية وأمنية وسياسية وثيقة لا يمكن تجاهلها.
على الرغم من أن الكثيرين يعتبرون تركيا دولة آسيوية، نظرًا لأن الجزء الأكبر من أراضيها (الأناضول) يقع في آسيا، فإنه لا يمكن إنكار عدم وجود حدود طبيعية فاصلة بين قارتي آسيا وأوروبا، وأن عوامل الفصل تعتمد بشكل أكبر على اعتبارات ثقافية وسياسية واقتصادية.
تتداخل جغرافية تركيا مع الجغرافيا الأوروبية من جوانب متعددة، حيث تضم تركيا منطقة شرق تراقيا، مما يجعلها تصنف كدولة بلقانية، بالإضافة إلى إطلالتها على بحر إيجه وشرق البحر الأبيض المتوسط، مما يجعلها دولة تقع في جنوب أوروبا.
على الصعيدين السياسي والأمني، تعتبر تركيا دولة مؤسسة للعديد من الهياكل الأوروبية الهامة، مثل منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، التي يشغل منصب أمينها العام حاليًا الدبلوماسي التركي فريدون سينيرلي أوغلو.
كما ساهمت تركيا في تعزيز الأمن في دول أوروبا الغربية خلال سنوات الحرب الباردة، من خلال عضويتها المبكرة والفعالة في حلف شمال الأطلسي.
لكن السنوات التي أعقبت انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو، أدت إلى تهميش الدور التركي في حلف الناتو والأمن الأوروبي، مع تراجع أهمية الحدود الجنوبية للحلف وأوروبا.
اليوم، تتجدد الحاجة إلى مساهمة تركيا في الحفاظ على أمن القارة الأوروبية، فهي تمتلك ثاني أكبر قوة برية في حلف الناتو، بقوام يتجاوز 750 ألف جندي عامل واحتياطي.
الأهم من ذلك، كما يقول فيدان، هو أن هذا الجيش "يمتلك عناصر ومعدات قتالية تم اختبارها في ساحة المعركة. فكم عدد الجيوش في أوروبا التي تتمتع بهذه الخبرة؟" هذا سؤال يطرحه الوزير التركي.
وفقًا لموقع جلوبال فاير باور، يحتل الجيش التركي المرتبة التاسعة بين أقوى عشرة جيوش في العالم لعام 2024.
في مجال الصناعات الدفاعية، ووفقًا لتقرير معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI)، ارتفعت حصة الشركات التركية في الصادرات العالمية للأسلحة من 0.8٪ خلال الفترة بين 2015 و2019 إلى 1.7٪ بين 2020 و2024، مما جعلها تحتل المرتبة الحادية عشرة في قائمة الدول المصدرة للدفاع على مستوى العالم، وفقًا لتصريح الرئيس أردوغان.
فيما يتعلق بالملف الأوكراني، وعلى الرغم من سياسة الحياد التي اتبعتها أنقرة منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية، إلا أن ذلك لم يمنعها من تزويد كييف بالطائرات المسيرة والقذائف.
كما أغلقت تركيا مضائقها ومجالها الجوي أمام السفن والطائرات العسكرية الروسية، وقادت بالتعاون مع رومانيا وبلغاريا قوة للكشف عن الألغام في البحر الأسود دون السماح بمشاركة أي قوى خارجية.
علاوة على ذلك، أعلنت تركيا استعدادها للمساهمة في أي قوة دولية لحفظ السلام في أوكرانيا في المرحلة المقبلة.
وعلى الصعيد الإنساني، نجحت تركيا في التوصل إلى اتفاق لتصدير الحبوب من روسيا وأوكرانيا في عام 2022، برعاية الأمم المتحدة.
إذًا، تركيا لديها بالفعل الإمكانات التي يمكن أن تقدمها للقارة الأوروبية في مجالي الأمن ودعم أوكرانيا، ولكن ما الذي يمكن لأوروبا أن تقدمه لتركيا؟
ما الذي يمكن أن يقدمه الاتحاد الأوروبي؟
في تقديري، فإن قبول عضوية تركيا الكاملة في الاتحاد الأوروبي يمثل تحديًا كبيرًا في الوقت الحالي. فبالإضافة إلى الأسباب الجيوثقافية، لا تزال هناك قضايا عالقة تعيق تحقيق ذلك، وأهمها العلاقات التركية اليونانية، التي يصعب تطبيعها في الوقت الحالي بسبب الخلافات حول جزر بحر إيجه والتنقيب عن الغاز والموارد المعدنية في شرق البحر الأبيض المتوسط.
كما أن القضية القبرصية تلعب دورًا مؤثرًا في عرقلة الانضمام، حيث تمتلك كل من اليونان وإدارة جنوب قبرص حق الاعتراض داخل الاتحاد، مما يمكنهما من تعطيل انضمام تركيا.
ومع ذلك، يمكن للاتحاد الأوروبي أن يمنح تركيا بعض الامتيازات والفرص، مثل رفع جميع العقوبات المتعلقة بتصدير الصناعات الدفاعية إليها، وإنهاء استبعادها من الشراكات الأمنية بين الاتحاد وحلف الناتو، وإدراجها ضمن الدول المشاركة في التعاون الهيكلي الدائم المعروف باسم PESCO، وهو تجمع يهدف إلى تعزيز التعاون الدفاعي بين دول الاتحاد الأوروبي.
على الصعيد الاقتصادي، يمكن للاتحاد الاستجابة لمطلب تركيا المتكرر بتحديث اتفاقية الاتحاد الجمركي.
كما تحتاج تركيا اليوم إلى إنهاء أزمة تأشيرات منطقة "شنغن"، والتي كانت جزءًا من اتفاقية اللاجئين الموقعة بين الطرفين، لكن الاتحاد لم يفِ بهذا الالتزام حتى الآن، وتفاقمت الأزمة نتيجة لزيادة رفض منح التأشيرات للمواطنين الأتراك.
ختامًا، فإن التوافقات التركية الأوروبية بشأن الأمن والدفاع قد لا تكون نهاية المطاف، وقد تضع أنقرة أمام تحديات جديدة في مواجهة الولايات المتحدة وروسيا على حد سواء.